اتصل بنا
 

النخب السائلة

نيسان ـ نشر في 2019-08-16 الساعة 20:43

x
نيسان ـ نيسان_خاص

إنه زمن النخب السائلة، فليس بعد كل هذا التجريف الممنهج للمراكز الاجتماعية الصلبة، والتفكيك المستمر للكتل الإدارية التي ظلّت تدير مؤسسات الدولة خلال العقود الماضية، إلّا السيولة، فقد كان يمكن أن تكون معوّقة للألعاب الحرة للطبقات الطفيلية، وفي حين أصبح العالم مؤتمتًا وسريعا حدّ الاندلاق في كل الأنحاء، لم يعد من داعٍ، على مستوى السلطة، للحراس من البيروقراط، وكذلك الأمر بالنسبة للمعارضات؛ فالطرق اليوم سالكة لانزلاق الأممي باتجاه القومي، والقومي باتجاه القُطري، والوطني باتجاه الإقليمي، وهكذا دواليك حتى آخر مزالق الهُويات الفرعية.
تبدأ عملية انهيار وسيولة النخب على وقع، ومن وحي، وتحت وطأة تفكك السلطة، وعدم سيطرتها الفعلية على مقاليد السياسة التي أصبحت رهينة التوازنات الخارجية، لتبدأ على الفور عمليات الضغط على الروابط والبنى الاجتماعية، فتنهار كل أشكال العمل الجماعي بعيد الأمد، وتسود محله ثقافة يومية، وأفراد يفاخرون بخططهم النفعية قصيرة الأمد الساعية للخلاص الفردي، حتى إن تلحفت بغطاء سميك من شعارات المصالح الوطنية العليا.
هذه العملية التاريخية الجبارة؛ تؤدي بالضرورة إلى تشرذم المجال العام، الساحة المفتوحة لكل الناس، ليصبح عبارة عن مهارب وممرات خلفية يحكمها الخوف من المستقبل، ولا يلقي جمهور اللايقين بالًا إلى أي طروحات من جراء الهلع العام السائد، فتستغل السلطات هذه الأجواء لتفرض هيبتها، بدعوى أنها "الحريصة" والقائمة على رعاية المصالح الوطنية العليا، وستعفي نفسها من شرح التوسع القمعي لضرورات توفير الأمن، خصوصا مع وجود التهديد الإرهابي، وحتى من دون وجود الإرهاب، فلن تَجدَ أية مقاومة من جمهور منقاد وراء لقمة عيش تؤمن له كفاف يومه، إضافة إلى أن عقدة ستوكهولم، وحب المخطوف لخاطفه، ستصبح القاعدة المُسيّرة لجموع المرعوبين والهاربين بجلودهم، فتصبح مهمة السلطة يسيرة جدًا، ولا تتجاوز عمليات إدارة الخوف وتدويره.
ضمن هذه المعطيات، ستصبح طروحات النخبة الليبرالية أكثر وجاهة، في ظل توازنات فَنّ الممكن والواقعية السياسية، خصوصا أنها تتمتع بثقة سلطوية محلية وضمانات رُعاتها الدُّوليين، لكن معضلتها القاتلة تكمن في عدم قدرتها على تقديم تبرير منطقي لتناقض وجهها الديمقراطي الجميل مع جوهرها الرأسمالي المتوحش، وعدم كفاءتها في نقل وترجمة كراسات مدرائها من القتلة الاقتصاديين بحيث تراعي أو تتماشى مع خصوصية المجتمع، فتتحول في نظر الجميع إلى وكيل للأجنبي مجرّد، أو متعهد من الباطن يعمل لدى مقاولين كبار.
وليست بالبعيدة عن هذه الحالة التيارات السياية الجذرية، والتاريخية من قوى يسارية وقومية وإسلامية، فشرعية هذه الأحزاب والتشكيلات الأيديولوجية مطعونة بولائها لامتداداتها الخارجية، وغالبا ما تكون قضية الوطن ثانوية على أجنداتها المثقلة بالالتزامات الأولية؛ الجهاد في أفغانستان والعراق وسورية ودعم حماس، هذا بالنسبة للتيارات السلفية والدينية، وقضايا انهيار الاتحاد السوفييتي، والعدوان على العراق، ومناصرة نظام الحكم السوري بالنسبة للتيارات اليسارية والقومية.
وحتى عندما تنزل هذه التيارات للشارع لمشاركة جموع المحتجين على ظروفهم وقضاياهم المعيشية، فإن هذه القوى تأتي بـ"تْركّاتها" وباصاتها ولافتاتها ومكبرات الصوت لتهتف لقضاياها ومقاصدها الخارجية، ومن ثم تتعارك مع بعضها بعضا بينما السلطة تلتقط تلك المشاهد وتنشرها للناس من أجل تهشيم ما تبقى من صورة هذه القوى إزاء الجماهير.
في المقابل تنحى السلطة لتمكين شرعيتها خارجيًا، بناء على التبعية والالتحاق بدولة أو دول قوية، فلم تعد شرعيتها المعنوية المحلية تعني لها شيئًا، ولم تعد من إمكانات عندها للحفاظ على عُمقَيها الأساسيين؛ الإداري التنفيذي والاجتماعي، فالكثير من أركان السلطة تبنى على التنفيعات والرِّشا لا على أساس المصالح، وما أن تتوقف التنفيعات حتى تنفك هذه الفئات عن السلطة وتلتحق بالمعارضة مطالبة بحقوقها المكتسبة التي فقدتها، المهم أنها تشكل نخبة أخرى، تتحرك وفق توصيفات سلوك البرجوازية الصغيرة المتذبذبة.

نيسان ـ نشر في 2019-08-16 الساعة 20:43

الكلمات الأكثر بحثاً