اتصل بنا
 

حوار افتراضي في قطار .. بقلم إسلام سمحان

نيسان ـ نشر في 2015-09-09 الساعة 15:36

x
نيسان ـ


على مقعد الانتظار جلست يومها، كنت أراقب الناس وهم ينزلون من القطار، ألمان ودنماركييون وسويديون وعرب وأفارقة وآسيويون.
وحين أُعلنت رحلة العودة من مدينة فالشوبينغ في السويد إلى الدنمارك صعدتُ القطار وجلست قرب النافذة، كان علي أن اكتشف البلاد الباردة كيف تنمو وتزداد خضرة تحت سماء شمسها قليلة، تذوي سريعا ما ان تطلع مثل شمعة.
في القطار أيضا جنسيات متعددة ولغات عدة، حقائب يدة صغيرة أو متوسطة، ملابس عملية ورشيقة ومقاعد لم يمسها الأذى بأي شيء.
في الحقيقة لم أنظر اليهم مطولا كي أبدو واحدا منهم وفضلت التمتع بالخضرة الممتدة على طول الطريق، فأنا أجلس قرب النافذة.
توقف القطار برهة في محطة عابرة، وصعد آخرون من بينهم امراة جلست في المقعد المقابل، حسبتها حبيبتي، تشبه فتاة أحلامي، وفعلا حلمت وأنا أنظر اليها بأننا مسافران معا ودار ذلك الحوارالمفترض بيننا:
أنا: انظري إلى السنح المتجمدة مثل طبقة الجليد، لا يستعرضون أسنانهم أمامنا رغم بياضها، ولا يتحدثون في شؤون ثقافية ومحلية مثلنا، إنهم يكتفون بالقراءة أو أخذ غفوة ريثما يصلون.
هي: دعهم وشأنهم، وانظر الي فقط.
أنا: لكنهم يثيرون الشفقة، لا حياة في حياتهم سوى ما يمن به نهاية الاسبوع عليهم، حيث يذهبون للبحيرات أو لحانة قريبة، لا يتزاورون ولا يتحدثون في مستقبل بلادهم، انهم لا يفقهون في السياسة أي شيء.
هي: دعهم وشأنهم، وانظر الي فقط.
أنا: حسنا، كيف ترغبين قضاء اجازتنا؟ هل نزور اضرحة الشهداء، أم ناخذ صورا تذكارية مع تماثيل الزعماء؟ ام ما رأيك مثلا أن نجلس في مقهى مع اصدقائنا الحزبيين للتحدث في تأثير العولمة على حركات النضال ضد الامبريالية؟
هي: دعهم وشأنهم، وانظر الي فقط.
أنا: لكن حسبتك ترغبين بزيارة صرح الحرب العالمية الثانية ومتحف الأسلحة، والمرور على جناح تطور الخوذات العسكرية.
هي: دعهم وشأنهم، وانظر الي فقط.
أنا: بالنسبة لي أرغب بشراء أعداد ونسخ قديمة من المجلات المحلية وكتب تعود لخمسمائة سنة، أريد ان أعرف اكثر عن تاريخ وتطور حركة الاحتجاج واساليب تعذيب المعتقلين والسجناء.
هي: دعهم وشأنهم، وانظر الي فقط.
في هذه الأثناء خرج صوت من جدران القطار العلوية يعلن الوصول للمحطة الأخيرة، حيث اخذ الركاب يخرجون بانتظام حتى جاء دور "فتاة أحلامي" وخوفا من أن اضيعها اقتربت منها كي أسير خلفها وفعلت حتى وصلنا معا إلى ذات النزل.
أنا: مرحبا، كنا معا على نفس القطار، والآن كذلك في النزل نفسه، أنا أزور الدنمارك أول مرة، زرت بلدانا أوروبية كثيرة، لكنني أول مرة هنا، لا أعرف أي شيء، وأرغب بمرافقتك للتعرف على هذه البلاد أكثر.
هي: حسنا، لا بأس لكن أريد أولا أن أتعرف عليك ؟
أنا: أنا عربي مناضل مقاتل ثائر ومعتقل سابق

هي: كل هؤلاء انت؟
أنا: نعم، وأعمل في الحركة الطلابية منسقا للاجتماعات من أجل تنظيم الاحتجاجات وإغلاق الطرق، كما أن لي مستقبلا وفرصة كي أصبح مسؤولا في بلادي.
هي: أهلا بك، أنا أسمي دوناتيلا من ايطاليا، وأعمل في مجال زراعة أطراف ضحايا الألغام، ولدي مشروع آخر لعلاج المتضررين نفسيا من الحروب، واكتب في مجلة انسانيات حول آخر ما توصلت اليه البشرية في علاج البثور، كما أملك متجرا صغيرا لبيع الزهور وبطاقات المعايدة، وأعيش في بيت امرأة مسنة في بلدة قريبة من بلدتي فيرشيللي كي أعتني بها وبكلبها، والآن صديقتي ترعاهما بأجر قليل حتى انتهي من رحلتي إلى الدنمارك، حيث اتيت هنا للمشاركة في حلقة مهمة نظمها الاتحاد الاوروبي لمناقشة تهديد انقراض بعض الحشرات المائية ، كما أرغب أثناء عودتي بالمرور إلى مركز ايواء الحيوانات المتشردة كي اتبرع بجزء من مدخراتي، كما..
في هذه الأثناء وهي تتحدث عن نفسها تذكرت مقولة الكاتب الايرلندي اوسكار وايلد: المعرفة تقتل، إن الضباب هو مايجعل الأشياء تبدو ساحرة.
نعم، نعيش حياة ساحرة، كلها ضباب، بعيدة كل البعد عن المعرفة، التي وحدها تسمو بالانسان، نعيش أمجاد الماضي، ونفكر بنهب المستقبل من أيدي أطفالنا، نبذل كل طاقتنا في التفكير بطرق القضاء على كل من يخالفنا، نصرف مليارات الأموال على شراء الاسلحة الفتاكة، همنا كيف سنبيد البشرية، بينما آخرون يكافحون من أجل ضمان بقاء نوع من الحشرات المائية.
لو أننا حشرات.

نيسان ـ نشر في 2015-09-09 الساعة 15:36

الكلمات الأكثر بحثاً