اتصل بنا
 

يقتلني الحنين.. وفي الليلِ يَنتصرُ الأنينْ

كاتب أردني

نيسان ـ نشر في 2019-12-07 الساعة 22:58

نيسان ـ في البدءِ كُنّا نَكتبُ موسيقى النَشْوة الأولى على الحيطانِ ولا نَقرَؤُها، ثُمّ صِرّنا نَكتبُ قصائدَ حُبٍّ على مَرايا العُمرِ الجميلِ ولا نَفهمُها، ثُمَ تَلحَّفْنا بِعَباءَةِ ليلٍ طَويلٍ يُحَيِّدُ كُلَّ شَيءٍ حَولَنا، يَصْحبُنا نِصفُ قَمَرٍ تاهَ عن مَجرَّتِنا طلبَ اللجوءَ في عِلِّيَةِ الدارِ، ومَناشيرُ عِشّقٍ أدْمَنّا عليها قَبلَ سِنِّ الرُشدِ.
يَقولُ الشاعرُ الروسيُّ ( فيودر توتشيف) :
"ثَمّة في بدايةِ الخريفِ
زمنٌ قصيرٌ لكنّهُ ساحرٌ
اليومُ بأكملِهِ يبقى صافياً كما الكرِيستالْ،
والأماسي مُشرِقة...
يصبحُ الهواءُ خفيفاً،
ولا يعودُ يُسمَع صوتُ الطيورِ،
لكن زُرقةً دافئةً ونقيةً تنسكبُ
فوقَ الحقلِ المصطافْ "
وأنا سَأَمنَحُ لِنَفسي الحق لِأَقول : نَسيَ توتشيف أنْ يقولَ أنّ وَجهَ الحَبيبةِ يُسافرُ معَ نسماتِ الخريفِ وعَبْرَ زُرقةِ السماء إلى ربيعٍ لا يَعّترفُ حَتماً بِنسبيّةِ اللّحظاتِ في جمالِ المَشهدِ الخَلاّبْ.
في حُمّى القلقِ
تَختلطُ كلُّ الصورِ في مُسْتنقعِ الذاكرةِ
إلاّ أنتِ،
فأنتِ ما تَبقّى منْ يَقينْ !.
أُعدِّلُ زاويةَ دُخولِ الشمس صَباحاً وَ أَستَحضِرُكِ و أَصنَعُ القهوةَ التي تُحبين فأَشْرَبُ قليلاً وأنتَظِرُكِ حتى تَنتَهين، فَتَنهَضينَ مِن مَقعَدِكِ المغترِ بِكُِ لِأَضَعَ مِعطَفْكِ الأَسوَد على كَتِفَيكِ، و أَقولُ شُكراً وَ أَقولُ عفواً وَأَمضي باتجاهِ الطَريقِ لِأَحيا مرةً أخرى مَرّتينْ، وتبقى بِضعُ أسئِلَةٍ عالِقَة في رأسي أُواسيِ نَفسي بِها لأبقى مُتماسكاً ورافضاً لأي محاوَلَةٍ لإحداهُن لِاحتلالي، لِتَبقى الأسلاكُ الشائِكَةُ حَول قَلبِي عاليةَ الڨولتيج...
هَلْ يقْتلُني الحَنينْ ؟!
نَعمْ سَيّدتي، فأنا لا أَستطيعُ أَن أَتَرَّجلَ عنْ المِقصَلَةْ.
هَلْ تُحاصِرني عقاربُ الساعةِ ؟!
لا، لأنّي لا أعترفُ إلاّ بِتوقيتِ قَلبي.
هَلْ تُخيفُني المَسافاتُ ؟!
لا، لأنّي لا أعترفُ إلاّ بالخطوطِ المُستقيمةِ في جَغرافيا روحي، خُطوطُ الطولِ والعَرض لا أَثَرَ لها هُنا فالخطُ الوحيد الذي أَعتَرِفُ بِهِ (هو خَطُ أَحمَرِ الشِفاهِ الذي تَضَعينْ).
هلْ أحبّكِ ؟! أمْ أنّ خَيالَكِ يَنقُصهُ احتمالُ اليقينْ ؟!
نعمْ سَيّدتي أنا أحبّكِ أكثرْ.
أكتبُ فقطْ...
كيْ أخفّفَ وَلو قليلاً منْ وجَعِ وطنٍ مُزمِنْ
وربّما أؤجّلَ نَوبةً قَلبيّةً في الطريقِ إلَيّْ !
فِي العبدلي وأمامَ مَكتَبِها سألتُ رِجالَ الأَمن: هلْ مَرّتْ منْ هنا ؟
كُلّهم صَمتوا،
قُلتُ: كانتْ حوريّةً!
قالَ أحدهمْ: لقدْ أضعتَ الطريقْ.
قلتُ: رُبّما هناكَ مَنْ سرقَ الطريقْ !
فِي هذا العَتْم غالِباً ما تَتَمنى حُضْنَ أُمِكّ، تُحدِّقُ فِي عَينَيها دَقيقتينِ أَرضِيتين فَتَعلَمُ تَماماً إلى ماذا تَنتَمِي، تتوه المُدُنُ أيضاً وتبحثُ عنكَ بين كَومَةِ بَشَرْ. تَبحَثُ عَن مَكانٍ تَبيتُ فيه، تَبحَثُ عن وَطَنْ.
في الليلِ
تَتكاثرُ الأفكارُ كَبِكتيريا الحنينْ
وفي الليلِ
عادةً ما يَنتصرُ الأنينْ
وفي الليلِ
أنتظركُ
فربّما تأتينَ وربّما لا تأتين.
الأسْوَدُ يُحيِّدُ كُلَّ شيءٍ هُنا، لَقد حلِمتُ ثلاثينَ عاماً بعالمٍ أكثر عدالةً وجمالاً وحُريّةً، ولكنَّ عَبَثِيْتي تُهاجمني الآنَ بِصَلافَةِ الغُزاةِ وعَوْلَمةِ الفقرِ القسّريِّ للمسّحوقينَ في هذا الكَونِ الرماديّ، عبدُ الله بنُ الزُبيرِ لم يترَجّل يا مُعاويّة، والّذين حرقوا كُتبَ إبن رُشّْدٍ ما زالوا هنا، والّذين حرقوا بغداد ما زالوا هنا، والّذين أعدَموا (روزا لوكسنبرغ) ما زلوا يرّقصون هنا، وهتلر خَلّفَ لنا وراءَهُ جيشاً من (الهٍتْلريينَ) بأسماءٍ مُخّْتلفة، والضحيّة السابقةُ وجدتْ ضَحيَّتها الجديدةْ، والطغاةُ يَورثونَ الطغاة، وجشعُ الرأسماليّةِ القذرةِ يزدادُ شراسةً بعدَ البشارةِ التي زَفّها لنا (فوكوياما) في نهايةِ التاريخ قبلَ ما يَزيدُ عَن عشرينَ عاماً، والذينَ يُرَوجونَ لبؤسِ الفلسفةِ وعبثيّةِ الإنسانِ يزدادونَ الآنَ صلافةً.
فمتى سنخْرجُ من ( بئرِ يوسفَ) ونضيءُ قنديلَ ديوجينَ مَرّةً أخرى !.

نيسان ـ نشر في 2019-12-07 الساعة 22:58


رأي: رأفت القبيلات كاتب أردني

الكلمات الأكثر بحثاً