اتصل بنا
 

الحراك الشعبيّ الأردنيّ: إلاّ مَنْ ظُلِم

نيسان ـ نشر في 2019-05-25 الساعة 22:56

x
نيسان ـ بلقيس الكركي
مساءَ الخميس الثالث عشر من ديسمبر 2018، تَغيّبَ مُعين الحراسيس عن اعتصام الدوّار الرابع الأسبوعيّ. ومعين أو «أبو أيْبَك» هو أحد رموز الحراك الشعبيّ الأردنيّ، منذ أن نزع بِزّته العسكريّة برتبة نقيب في اللحظة التي استباحَ فيها شارون باحةَ المسجد الأقصى عام ألفين، مرورا بالهبّات الشعبيّة في الربيع العربيّ وبعده حتّى رمضان هذا. فجرَ ذاك الخميس، غصَّت بالدمع رياحُ الجنوب. مرّت بعمّان، وعرَجتْ بروح الحاجّة المربّية آمنة المحاميد، والدة أربعة من الحراكيّين الأردنيّين: معين ومحمّد ونضال ومأمون. عرَجت إلى سماءٍ تُطلُّ منها راضيةً عن ما تركت لنا من شرفٍ في البلاد.
عاد معين إلى ساحة الاعتصام في الخميس الذي يليه مع أيبك، ليجدَ حرّاسَ الاعتصام في انتظاره. هذه المرّة، لم يكن الانتظارُ بنيّةِ المراقبة أو المعاقبة. بعيداً عن الكاميرات، وبكلّ ما أوتوا من شِيَمِ الديار، سلّمَ جميع رجال الأجهزة الأمنيّة هناك من أمنٍ عامّ ووقائيّ ودرك ومخابرات على معين، معزّين بوفاة الحاجّة آمنة التي علّمتْ أبناءها يوماً، حالها كحال جميع أمّهاتِ معتقلي الرأي في الأردنّ اليوم، أنّ السجنَ السياسيّ «عُمْرُه ما بِسَكِّر عالزّلام».
يستمرّ اعتصام الخميس منذ خمسة وعشرين أسبوعاً، وترتفع السقوف، وتُصدَر البيانات، وتجتمع الحراكات، ويزداد الترهيب والاستدعاءات والاعتقالات. الإعلام خائف وغائب، وكثيرٌ من الأحزاب والنقابات. لم يكن الثمن باهظاً هكذا رمضانَ الماضي: «سنتين مش خسارة بالبلد»، قال المعلّم صبري المشاعلة عند اعتقاله بتهمة إطالة اللسان، بينما كانت ساحة الاحتجاج في عمّان ترحّب أسبوعاً بعد آخر بالهُتاف الـمُغنّى الجميل: «ما أحلى نَفَسِ الحريّة وما أحلى ذيبان». عشرون معتقلاً تقريباً في رمضان بسبب هتاف أو منشور، ويحتملون بينما يستعدّ الباقون. كلّ ما يطلبونه بخصوص الاعتقال أن يتمّ استدعاؤهم بطريقة لا تخون معانيَ الكرامة والشهامة التي يعتزّ بها الأردنيّون؛ طريقةٍ لا بطشَ فيها ولا فجورَ في الخصومة ولا انتهاكَ لحُرمات بيوتهم. يطلبون أن تسمعَهم أجهزة الدولة الأمنيّة والقضائيّة بصبر عادلٍ قبل أن تسنِدَ إليهم تُهَماً كبيرةً على محض الكلام، وقبل أن يؤجّج سجنهم مزيداً من القهر ومزيداً من الإحساس بأنّهم، عند الدولة، محضُ صغارٍ مخرّبين ليسوا من صُلب الوطن.
كم تفتقدُ البلاد في الليلة الظلماء الحكيمَ العريق عبد اللطيف عربيّات، الذي اعترض في أغسطس الماضي عبر قناة «الأردنّ اليوم» بكلّ حُرقة على تعامل الأجهزة الأمنيّة مع أحداث السلط، وقال عن الضحايا من الطرفين ما لم يعد يجرؤ على قوله أحد، حتّى في سياق الحديث عن حراك سلميّ لا يُقارن إطلاقاً بالاعتداء المسلّح. قال عن الطرفين بكلّ ما تحتاجه المحبّة من جبروت: «هؤلاء أولادي، وهؤلاء أولادي».
لو أنّه بقي قليلاً، قليلاً فقط، وسُئِل عن تُهَم إطالة اللسان، لربّما ذكّر الدولة التي حضرت عزاءه بالآية التي نسيَتْ أو تناسَتْ: «لا يحبّ اللهُ الجهرَ بالسوء من القول إلاّ من ظُلِم»، ولكان أعادها أبو سليمان مرّتين: «إلاّ من ظُلِم».
عزّ على الحراكيّة نهى الفاعوري التي لا تتغيّب عن اعتصام الخميس أن يسألَها المحقّق عن وضعها الاقتصاديّ. عزّ عليها أن يظنّ ابن بلدها أنّ الأردنيّات لا يحرّكهنّ سوى الفقر. بعد أن أجابت بأنّ وضعها المادّيّ أفضلُ من حال نصف الأردنيّين، على الأقلّ استجمَعتْ كلَّ إحساسٍ تعلّمَته منذ أن كانت طفلة على مقعد في مدرسة السلط العريقة وقالت: «أنا بطلع عالرابع عشان اوْلادَك». لم تخرج نهى من هناك إلاّ معزّزة مكرّمة، لكنّها لم تنسَ أن تطلب أن يطبَّقَ الشيءُ نفسه على كلّ الحراكيّين والحراكيّات، الذين يتمّ استدعاؤهم للسؤال عن طريقتهم في حبّ البلاد. أسألها أنا لماذا وتجيب: «مو بإيدي يا بلقيس… أنا بعشق تراب هالبلد»، وتحبس دموعاً بقيت عصيّة حتّى اللحظة التي احتضنَت فيها هند الفايز على مدخل سجن الجويدة، فانهمرت، وانهمرت.
الرابع عشر من أيّار، استضافت مضارب بني حسن في الهاشميّة أردنيّين كثرا في خيمة التضامن مع الحراكيّ المعتقل المحامي نعيم أبو ردنيّة المشاقبة المتّهم بـ»تغيير كيان الدولة» لأنّ غضبه على ما تعرّض له الناشطان عبدالله العموش وعبدالله بطاح من إهانة، استفزّ حميّته ونخوتَه فقال كلاما من صُلبِ القهر. اعتُقل نعيم، بينما طُلبت بنات عبدالله بطاح، الجامعيّات جوليا وإسراء، للمدّعي العامّ بتهمة مقاومة رجال الأمن. ماذا، بحقّ السماء، على بنت عربيّة أردنيّة أن تفعل عندما يُهان أبوها أمام عينيها وُيقتاد إلى سجن باب الهوى لأنّه صوّر خطوط الغاز الإسرائيليّ؟
في تلك الخيمة الكريمة، أصرّ أبناء حراك قبيلة بني حسن على تكريم جميع الحاضرين، من أيّ مكان جاؤوا أو توجّه سياسيّ أو حزبيّ كانوا. كان أوّل ما نطق به محمّد الفالح الشديفات في مقدّمته: «جئنا لتوحيد الحراك الأردنيّ»، وصفّق الجميع لكلّ من عرّف بنفسه بأنّه من «قبيلة الأردن» أو من «الحراك الأردنيّ الموحّد». تحدّث كثيرون، الضيوف قبل المعزبين، ولم يتعدّ أحد على كلام الآخر، وكان كلّ انفعال في الكلام بهيّاً لا شخصنةَ فيه ولا نرجسيّة أو منافسة. كانت الحضارة في خيمة القبيلة أكثر حقيقيّة وأقلّ زيفاً منها في جميع الندوات والمبادرات والمنتديات الثرثارة الخائرة. تحدّث ممثّلون عن الحراكات الشعبيّة ولجنة المتابعة الوطنيّة وبعض الأحزاب والمستقلّين مصرّين على توحيد الحراك، وعلى التوقّف عن مخاطبة الحكومات، لأنّها لا تملك من أمر نفسها شيئاً، وعلى أن يبقى خطاب الحراك موجّهاً إلى رأس النظام من غير تردّد ومن غير إسفاف، كيلا يعود خطوات باهتة إلى الوراء. تحدّث الجميع بدءا بالشيخ سليمان الخلايلة، تبعه الشيخ سالم الفلاحات وسعود قبيلات وسفيان التلّ وسعد العلاوين ومحمد الدهيمات وجهاد الشرع وعلي الأزهري وعمر أبو رصاع ومعين الحراسيس وبشّار الرواشدة وغيرهم، كلُّهم بوطنيّةٍ بِكْرٍ لا تخفى إلاّ على أعمى، قد يصدّق تقريراً يقول إنّ هؤلاء جميعاً محضُ أدوات في مؤامرة على الوطن، خاصّة بعد أن شدّد الحاضرون بلسان جمال جيت على أنّ موقفَهم من السفارات، أمريكيّة وصهيونيّة وبريطانيّة وغيرها، موقفٌ واحد واضح لا يخضع للنقاش: «نحن أبناء هذي البلد، ونحن من يدافع عنها… ومن ديار بني حسن نردّ على نهج التبعيّة بالتوحّد». كان معظم ما قالوه يتّفق إلى حدّ كبير مع ما ورد في «ميثاق وعهد بين الأردنيّات والأردنيّين الأحرار»، الذي صدر عن لجنة المتابعة الوطنيّة اليوم التالي، جوهره دعوةٌ إلى ملكيّة دستورية، ووقف التجاوزات على الدستور الأردنيّ. وإذا كان مضمون الكلام في الخيمة لا يتناقض مع ما طرحه مؤخّراً التجمّع الوطنيّ للتغيير، الذي يضمّ شخصيّات قريبة من السلطة، إلاّ أنّ هنالك اختلافاً لا يخفى في الحرارة والمرارة واللغة والجموح.
كم بدا التاريخ الأردنيّ قصيراً، وكم بدا حاضراً الهتاف الذي يتكرّر في اعتصام الرابع ويعاقَب عليه الهاتفون: «دولتنا الأردنيّة قبل الثورة العربيّة». أبناء بني حسن في ذلك المساء خلعوا الحطّات الحُمر، وارتدوا بدلاً منها الحطّات السود. قالوا إنّ ذلك من أجل المعتقلين، لكنّ الرمزيّة التاريخيّة واضحة. وإذا كانت الحمراء ترمز في الوقت الحاليّ إلى شيء من حبّ البلاد، فإنّ السوداء رمزت إلى أكثر من ذلك؛ إلى حبّ أصبح عشقاً من شدّة الخيبة والوجع، ولأنّه يريد رغم ذلك وكما اتفق كلّ الحاضرين وكما يرد في بيانات الحراكات المتعدّدة: «استعادة البلاد».
في ذلك المجلس الكريم طُلِب من هند الفايز أن تقوم لا أن تقعد. «هاتِ عنّك هذا الانكليزي أم صخر»، فارتدت على كتفيها الحطّة السوداء بدل الحمراء. كانت متعبة ويداها باردتان لكن لا بأس: سيوقفها على قدميها السكّر الثقيل في شاي القبيلة، وملح الكرامة في عروق المكان. حيّت هند بني حسن على تصدّرها الحراك الشعبيّ، وعلى توحيد الناس، ودعت أن يجمع الحراك جميع الأردنيّين من الشمال والجنوب والشرق والغرب، وأن تلتحق به الأحزاب والنقابات والمخيّمات. «أبشري»، ردّ أبناء القبيلة التي ذاع صيتُها وكرم أهلها، وصولاً كما أعرف جيّداً إلى جامعات أجنبيّة درس أساتذتها في مرحلة ما في جامعة آل البيت. كانت «أبشري» جوهرَ خطاب أحرار بني حسن للبلاد كلّها، إذ أخذوا في الآونة الأخيرة يصرّون مراراً على أنّه ليس منهم أو من شيوخهم، بل ليس من الوطن من يقبل أن تُشترى ذممه أو يسعى لمكاسب شخصيّة أو يبيع أيّ أردنيّ حرّ من أجل منصب أو نفوذ أو مال.
لم تمرّ ثمان وأربعون ساعة حتّى اعتُقِلَت هند مساء الخميس السادس عشر من مايو، وأمضت ليلتها في سجن الجويدة، وقالوا إنّ الأمر لا علاقة له بدورها في الحراك. بكتْ هند عندما خرجت، بكت على بلادها بحرقةٍ ساوَت حرقتها على أخيها صخر كما بكت من قبلها الخنساء: « يا لهفَ نفسي على صخر…». اقترب التاريخ البعيد أكثر ليلة اعتقالها، إذ تذكّر كثيرون مذهولون في ساحة الاعتصام أنّ هند بنت عتبة التي انتقمت لأخيها شرّ انتقام، لم تؤسَر ولم تمُسَّ جيوبُها أو شعرةٌ من رأسها بعد فتح مكّة رغم فداحة ما فعلت، وهي التي كانت تصف نفسها بالـ»حرّة» كما يصف أنفسهم الآن، عن ألف وجه حقّ، أبناء الحراك الشعبيّ الأردنيّ وبناته، الذين يراد لهم أن يسكتوا على من مثّلوا بجسد الوطن وهو حيّ، فحمل ائتلافهم الجديد العنوان العنيد: «مش ساكتين».
في الخميس الأوّل من رمضان، تقترب صحافيّة نصف أجنبيّة متحمسّة وتسأل: «هؤلاء يريدون الأردنّ للأردنيّين، أي شرق الأردنيّين الذين ليسوا من أصول فلسطينية، أليس كذلك؟» كانت تسأل في اللحظة ذاتها التي كان فيها رامي سحويل يهتف بعد مجد فرّاج ومحمود مخلوف ومعين الحراسيس وعلاء ملكاوي، علاء الذي قال مرارا إنّ «الحراك الشعبيّ عشيرتي». كيف لها أن تفهم ما يعنيه تناوب هؤلاء على الهتاف؟ لن تفهم، فقُلنا «سلاما». هل غيرها يفهم أصلاً؟ «أنا أردنيّ وأصلي من قضاء جنين، ونعيم أبو ردنيّة فلسطيني أكثر منّي»، يقول علي الأزهري. لماذا إذن تخاطر يا عليّ بالاحتجاج ولك من البنات خمس؟ أسأل. «لأنّها بلدي… بتعرفي شو يعني بلدي؟» طبعا أعرف يا عليّ.
في مارس، أُقيمَ عرسٌ للشهيد عمر أبو ليلى وشهداء فلسطين في ديار بني حسن، ورُفِعَت لافتة في ساحة الاعتصام في عمّان بتوقيع «أحرار الرابع»: «أنا من الطفيلة وسلفيت تمثّلني»، بينما كان نعيم يدعو الأردنيّين الأحرار لتعلّم الصلابة والمقاومة من شباب فلسطين. يُهدّد هؤلاء بالاعتقال، رغم أنّهم قد يكونون الوقود الحقيقيّ للدفاع مع إخوتهم في فلسطين ضدّ صفقة القرن. كلّ ما يفعلونه هو أنّهم يفتحون بالكلام جراحاً قديمةً رُمَّت على «فساد»، وقد آن الأوان لكي يتصدّروا من غير تعتيم أخبار البلاد، ولأن يُسقى صبرُهم وعنادُهم، كما غنّت لهم ميسون الصنّاع منذ أعوامٍ خمسين، «مِنْ مَيّةَ العينِ».
كاتبة أردنية
القدس العربي

نيسان ـ نشر في 2019-05-25 الساعة 22:56

الكلمات الأكثر بحثاً